📁 آخر المقالات

المحور الثاني: العقلانية العلمية

العقلانية العلمية

تم تعريف العقلانية على أنها اتجاه فلسفي يؤكد على أولوية العقل في إنتاج المعرفة اليقينية، دون الحاجة إلى التجربة الحسية التي غالبًا ما تكون وهمية ومزيفة. ونميز هنا بين تصورين عقلانيين أولهما كلاسيكي يتميز بالاستقرار والانغلاق، وثانيهما معاصر يتميز بين الانفتاح والتغير. والحديث في أصله هنا، عن العلاقة بين ما هو عقلي المعتمد على التماسك الداخلي للعقل، وما هو واقعي المعتمد على الملاحظة الدقيقة والتجارب في بناء النظريات العلمية.

إشكال المحور

هل العقلانية العلمية مغلقة أم منفتحة...؟ وبتعبير آخر ما هو الأساس الذي تقوم عليه العقلانية العلمية...؟ هل هو العقل أم التجربة أم أنهم معا...؟

موقف ألبير اينشتاين

ينتقد "آينشتاين" التصور الذي يرى في النظرية تأمل عقلي محض، ويعتبر أن التجربة مجرد ملاحظة للواقع، ويؤكد على عدم وجود نظرية علمية عقلية خالصة، ولا وجود لتجربة علمية مستقلة عن العقل. فبناء النظرية العلمية يتطلب كلا من العقل والملاحظة والتجربة. لأن انغلاق النظرية على نفسها يؤدي إلى فنائهما. ويشدد "آينشتاين" على أن النسق النظري للعلوم المعاصرة يتألف من مفاهيم ومبادئ هي إبداعات حرة للعقل البشري. ومنه فالنظرية العلمية تبنى بناء عقليا خالصا، أما المعطيات التجريبية فيجب أن تكون مطابقة للقضايا الناتجة عن النظرية وخاضعة لها. ومن هنا يؤكد على أن العقل الرياضي هو مبدع النظريات، ولكن دون الاستغناء عن الملاحظة والتجربة.

موقف هانز رايشنباخ

ينتقد العقلانية المثالية والحديثة، لأنها تتجاوز الملاحظة الحسية والتجريب، ولكونها ترى في العقل قوة خاصة تجعله قادرا على اكتشاف القوانين الفيزيائية العامة للعالم على أساس الاستنتاج والحدس العقلي، وعلى العكس من ذلك "رايشنباخ" يعتبر ان المصدر الوحيد للمعرفة العلمية هي التجربة. فالعقل وحده عاجز وغير قادر على إنتاج أي معرفة بالواقع المادي الفيزيائي. ولا ينفذ إلى هذا الواقع إلا من خلال التجربة. وبهذا المعنى، فإن المعرفة العلمية هي في المقام الأول معرفة تجريبية. حتى لو حدث وتدخل العقل فيها، وكان له دور في توجيه التجربة واستخراج القوانين العلمية منها، فإن هذا لا يعني على الإطلاق أن المعرفة العلمية هي معرفة عقلانية، بل تعني فقط أنها معرفة معقولة. بمعنى آخر، فهي معرفة خاضعة للعقل ولكن مصدرها الأول والأخير هو التجربة.

موقف غاستون باشلار

في رأيه، العقل وحده لا يكفي لبناء النظريات، والتجربة وحدها أيضا ليست بكافية. والعلوم الفيزيائية لا تتأسس إلا عبر حوار فلسفي يجمع بين عالم عقلاني وعالم تجريبي. وهذا يعني أن عالم الفيزياء يحتاج إلى يقين مزدوج، يعني إلى حوار بين ما هو عقلاني وما هو تجريبي، حوار يجمع بين العقلانية المنغلقة، التي تؤمن فقط بقدرات العقل وإمكاناته، وبين النزعة التجريبية، الاتجاه الذي يرى أن المعرفة تبدأ بالتجربة الحسية التي تعمل على إثرائها بالملاحظات الدقيقة والتجارب العلمية. ويعتقد أن العقلانية العلمية المعاصرة ليست وعيا منعزلا عن الواقع، ولا واقعًا مستقلا عن العقل، بل هي عقلانية فلسفية مطبقة ومنفتحة، والمعرفة العلمية هي نتيجة لتكامل عمل العقل والتجربة على حد سواء، لذلك ينتج العقل أفكارا وتصورات، والتجربة تعمل على استخلاص المعطيات الحسية.

خلاصة المحور

إن الدور الكبير الذي تلعبه التجربة في بناء النظريات والقوانين والمبادئ والعلمية لا يمكن إنكاره، ولا يمكن من جهة أخرى إنكار مساهمة العقل في ظهور العلوم وتقدمها، وفي شرح وتفسير مختلف الظواهر الكون ناحية أخرى، وعلى هذا الأساس، لكل من العقل والتجربة موقع وظيفي لا يمكن تجاوزه. فالعقل يعطي للمعرفة العلمية تناسقها وتناغمها، والتجربة تسمح بتحقيق نوع من التناسب مع ما تم التوصل إليه، ومن هنا يمكن أن نسأل ما هي المعايير العلمية للنظريات العلمية وما هي مقاييس صلاحيتها...؟


تعليقات